فصل: سورة نوح

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


سورة المعارج

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 14‏]‏

‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ‏(‏1‏)‏ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ‏(‏2‏)‏ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ‏(‏3‏)‏ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ‏(‏4‏)‏ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ‏(‏6‏)‏ وَنَرَاهُ قَرِيبًا ‏(‏7‏)‏ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ‏(‏8‏)‏ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ‏(‏9‏)‏ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ‏(‏10‏)‏ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ‏(‏11‏)‏ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ‏(‏12‏)‏ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ‏(‏13‏)‏ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ‏}‏‏.‏ قرأ نافع بغير همزة، والباقون بالهمزة‏.‏ فمن قرأ بغير همزة، فهو من سال يسال يعني‏:‏ جرى واد بعذاب الله تعالى‏.‏ ومن قرأ بالهمزة، فهو من سأل يسأل بمعنى دعا داع‏.‏ ‏{‏بِعَذَابٍ وَاقِعٍ‏}‏، وهو النضر بن الحارث، فوقع به العذاب، فقتل يوم بدر في الدنيا‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ دعا داع بعذاب يقع في الآخرة، وهو قولهم‏:‏ إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ‏}‏ عن عذاب واقع والجواب‏:‏ ‏{‏للكافرين لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ‏}‏ يعني‏:‏ أن ذلك العذاب من الله واقع للكافرين‏.‏ ‏{‏مِنَ الله‏}‏ الذي هو ‏{‏ذِي المعارج‏}‏‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ ذي الدرجات، يعني‏:‏ السموات السبع‏.‏ وقال القتبي‏:‏ يعني‏:‏ معارج الملائكة أي تصعد‏.‏ ‏{‏تَعْرُجُ الملئكة والروح إِلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ جبريل‏.‏ ‏{‏فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ ذلك العذاب واقع في يوم القيامة، مقداره خمسين ألف سنة‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ يعرج جبريل والملائكة في يوم واحد كان مقداره لو صعد غيرهم خمسين ألف سنة‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ ‏{‏فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ قال‏:‏ هو يوم الفصل بين الدنيا والآخرة‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فاصبر صَبْراً جَمِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ اصبر صبراً حسناً لا جزع فيه‏.‏ ثم أخبر متى يقع العذاب فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة غير كائن عندهم‏.‏ ‏{‏وَنَرَاهُ قَرِيباً‏}‏ لا خلف فيه‏.‏ ‏{‏يَوْمَ تَكُونُ السماء كالمهل‏}‏ يعني‏:‏ اليوم الذي تكون السماء كالمهل أي‏:‏ كدردي الزيت من الخوف‏.‏ ويقال‏:‏ ما أذيب من الفضة أو النحاس‏.‏ ‏{‏وَتَكُونُ الجبال كالعهن‏}‏ يعني‏:‏ كالصوف المندوف‏.‏ قرأ الكسائي‏:‏ ‏{‏يَعْرُجُ الملائكة‏}‏ بالياء، والباقون بالتاء بلفظ التأنيث، لأنها جمع الملائكة‏.‏ ومن قرأ بالياء، فلتقديم الفعل‏.‏ وروي عن ابن كثير أنه قرأ‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ‏}‏ بضم الياء، والباقون بالنصب‏.‏ ومن قرأ بالضم، فمعناه أنه لا يسأل قريب عن ذي قرابته، لأن كل إنسان يعرف بعضهم بعضاً قوله تعالى ‏{‏يُبَصَّرُونَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يعرفونهم ملائكة الله تعالى‏.‏ ومن قرأ بالنصب، معناه لا يسأل قريب عن قريبه، لأنه يعرف بعضهم بعضاً ‏{‏يُبَصَّرُونَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يعرفونهم ويقال‏:‏ مرة يعرفونهم، ويقال‏:‏ ومرة لا يعرفونهم‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏يَوَدُّ المجرم‏}‏ أي‏:‏ يتمنى الكافر‏.‏ ‏{‏لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ‏}‏ يعني‏:‏ ينادي نفسه بولده، ‏{‏وصاحبته‏}‏ يعني‏:‏ وزوجته، ‏{‏وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ التى تُوِيهِ‏}‏ يعني‏:‏ عشيرته التي يأوى إليهم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَفَصِيلَتِهِ‏}‏ أي‏:‏ قبيلته، هكذا روي عن قتادة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني‏:‏ عشيرته‏.‏ ‏{‏وَمَن فِى الارض جَمِيعاً‏}‏ يعني‏:‏ يفادي نفسه بجميع من في الأرض‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يُنجِيهِ‏}‏ يعني‏:‏ ينجي نفسه من العذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 35‏]‏

‏{‏كَلَّا إِنَّهَا لَظَى ‏(‏15‏)‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ‏(‏16‏)‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ‏(‏17‏)‏ وَجَمَعَ فَأَوْعَى ‏(‏18‏)‏ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ‏(‏19‏)‏ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ‏(‏21‏)‏ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ‏(‏22‏)‏ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ‏(‏23‏)‏ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ‏(‏24‏)‏ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ‏(‏25‏)‏ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏26‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ‏(‏27‏)‏ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ‏(‏28‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‏(‏29‏)‏ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ‏(‏30‏)‏ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ‏(‏31‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ‏(‏32‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ‏(‏33‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏34‏)‏ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ أي حقاً لا ينجيه، وإن فادى جميع الخلق، ولا يفادي نفسه وقال أهل اللغة‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع وتنبيه يعني‏:‏ لا يكون كما تمنى‏.‏ ثم استأنف الكلام، فقال‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّهَا لظى‏}‏ يعني‏:‏ النار والعقوبة ‏{‏لظى‏}‏ اسم من أسماء النار‏.‏ ‏{‏نَزَّاعَةً للشوى‏}‏ يعني‏:‏ قلاعة للأعضاء؛ ويقال‏:‏ حراقة للأعضاء والجسد‏.‏ وقال القتبي الشوى‏:‏ جلود الرأس وأحدها شواة، ويعني‏:‏ أن النار تنزع جلود الرأس‏.‏ وعن أبي صالح قال‏:‏ ‏{‏نَزَّاعَةً للشوى‏}‏ أطراف اليدين والرجلين؛ وقال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ تنزع النار الهامة والأطراف‏.‏ قرأ عاصم في رواية حفص‏:‏ ‏{‏نَزَّاعَةً‏}‏ نصباً على الحال، والباقون بالضم يعني‏:‏ إنها نزاعة للشوى‏.‏

‏{‏تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى‏}‏ يعني‏:‏ لظى تدعو إلى نفسه، تنادي من أعرض عن التوحيد وأعرض عن الإيمان؛ ويقال‏:‏ إن لظى تنادي وتقول‏:‏ أيها الكافر تعال إلي، فإن مستقرك فيّ‏.‏ وتقول‏:‏ أيها المنافق تعال إلي، فإن مستقرك فيّ‏.‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَجَمَعَ فَأَوْعَى‏}‏ يعني‏:‏ جمع المال ومنع حق الله تعالى‏.‏ قال مقاتل‏:‏ ‏{‏فَأَوْعَى‏}‏ يعني‏:‏ فأمسكه، فلم يؤد حق الله تعالى‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً‏}‏ يعني‏:‏ حريصاً ضجوراً بخيلاً ممسكاً فخوراً، وقال القتبي‏:‏ ‏{‏هَلُوعاً‏}‏ يعني‏:‏ شديد الجزع‏.‏ يقال‏:‏ ناقة هلوع، إذا كانت شديدة النفس‏.‏ ‏{‏إِذَا مَسَّهُ الشر‏}‏ يعني‏:‏ الفقر‏.‏ ‏{‏جَزُوعاً‏}‏ يعني‏:‏ لا يصبر على الشدة‏.‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً‏}‏ يعني‏:‏ إذا أصابه الغنى يمنع حق الله تعالى‏.‏ ‏{‏إِلاَّ المصلين‏}‏، فإنهم ليسوا هكذا، وهم يؤدون حق الله تعالى‏.‏ ‏{‏الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يحافظون على الصلوات‏.‏ ‏{‏والذين فِى أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ‏}‏ يعني‏:‏ معروفاً ‏{‏لَّلسَّائِلِ والمحروم‏}‏ يعني‏:‏ للسائل الذي يسأل الناس، والمحروم الذي لا يشهد الغنيمة ولا يسهم له‏.‏ وروى وكيع، عن سفيان، عن قيس، عن محمد بن الحسن قال‏:‏ بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، ففتحت، فجاء آخرون بعد ذلك، فنزل ‏{‏وَفِى أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ لَّلسَّائِلِ والمحروم‏}‏‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ أعياني أن أعلم ما المحروم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدين‏}‏ يعني‏:‏ بيوم الحساب‏.‏ ‏{‏والذين هُم مّنْ عَذَابِ رَبّهِم مُّشْفِقُونَ‏}‏ يعني‏:‏ خائفين‏.‏ ‏{‏إِنَّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ‏}‏ يعني‏:‏ لم يأت لأحد الأمان من عذاب الله تعالى؛ ويقال‏:‏ لا ينبغي لأحد أن يأمن من عذاب الله تعالى‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابتغى وَرَاء ذلك فَأُوْلَئِكَ هُمُ العادون‏}‏ وقد ذكرناه‏.‏ ‏{‏والذين هُمْ لاماناتهم وَعَهْدِهِمْ راعون‏}‏ يعني‏:‏ الأمانات التي فيما بينهم وبين الله تعالى، والعهد الذي بينهم وبين الله تعالى‏.‏

والأمانات والعهد التي بينهم وبين الناس حافظون‏.‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ بشهاداتهم قَائِمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يؤدون الشهادة عند الحاكم، ولا يكتمونها إذا دعوا إليها، فيؤدون الشهادة على الوجه الذي علموها وحملوها‏.‏ قرأ عاصم في رواية حفص، وأبو عمرو في إحدى الروايتين ‏{‏بشهاداتهم‏}‏ وهو جمع الشهادة، والباقون ‏{‏بشهادتهم‏}‏ وهي شهادة واحدة؛ وإنما تقع على الجنس‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يداومون عليها ويحافظون عليها في مواقيتها‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ فِى جنات مُّكْرَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أهل هذه الصفة، في جنات مكرمون بثواب من الله تعالى بالتحف والهدايا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 44‏]‏

‏{‏فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ‏(‏36‏)‏ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ‏(‏37‏)‏ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ‏(‏38‏)‏ كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ‏(‏40‏)‏ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ‏(‏41‏)‏ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏42‏)‏ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ‏(‏43‏)‏ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ‏}‏ يعني‏:‏ حولك؛ ويقال‏:‏ عندك ناظرين‏.‏ والمهطع‏:‏ المقبل ببصره على الشيء‏.‏ كانوا ينظرون إليه نظرة عداوة يعني‏:‏ كفار مكة‏.‏ وإنما قولهم ‏{‏مُهْطِعِينَ‏}‏ نصباً على الحال‏.‏ ‏{‏عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ‏}‏ يعني‏:‏ حلقاً حلقاً جلوساً لا يدنون منه، فينتفعون بمجلسه‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏عِزِينَ‏}‏ يعني‏:‏ متفرقين‏.‏ وروى تميم، عن طرفة، عن جابر بن سمرة قال‏:‏ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن جلوس متفرقين، فقال‏:‏ «مَا لِي أرَاكُمْ عِزِينَ‏؟‏» يعني‏:‏ متفرقين ‏{‏أَيَطْمَعُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ يتمنى كل واحد منهم أن يدخل الجنة، كما يدخل المسلمون‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ يعني‏:‏ لا يدخلون ما داموا على كفرهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّا خلقناهم مّمَّا يَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ من النطفة؛ وقال الزجاج‏:‏ معناه أنهم خلقوا من تراب، ثم من نطفة‏.‏ فأي شيء لهم يدخلون به الجنة‏؟‏ ويقال‏:‏ إنا خلقناهم مما يعلمون، فبماذا يتكبرون ويتجبرون‏؟‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبّ المشارق‏}‏ يعني‏:‏ أقسم برب المشارق وقال في آية‏:‏ ‏{‏رَّبُّ المشرق والمغرب‏}‏‏.‏ وإنما أراد به الناحية التي تطلع الشمس، والناحية التي تغرب الشمس منها‏.‏ وقال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏رَبُّ المشرقين‏}‏ يعني‏:‏ مشرق الشتاء ومشرق الصيف، ورب المغربين لذلك؛ وقال في هذا الموضع‏:‏ ‏{‏رَبّ المشارق‏}‏ يعني‏:‏ مشرق كل يوم؛ وهي ثمانون ومائة مشرق في الشتاء ومشرق مثلها في الصيف‏.‏ ‏{‏والمغارب‏}‏ يعني‏:‏ مغرب كل يوم‏.‏ ‏{‏إِنَّا لقادرون على أَن نُّبَدّلَ خَيْراً مّنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ على أن نهلكهم ونخلق خلقاً خيراً منهم ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ‏}‏ يعني‏:‏ عاجزين‏.‏

‏{‏فَذَرْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ اتركهم وأعرض عنهم‏.‏ ‏{‏يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ‏}‏ يعني‏:‏ حتى يخوضوا ويلعبوا في الباطل ويستهزئوا‏.‏ ‏{‏حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ‏}‏ يعني‏:‏ يعاينوا يومهم ‏{‏الذى يُوعَدُونَ‏}‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الاجداث سِرَاعاً‏}‏ يعني‏:‏ في اليوم الذي يوعدون وفي اليوم الذي يخرجون من القبور سراعاً يعني‏:‏ يسرعون إلى الصوت ‏{‏كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ‏}‏ يعني‏:‏ كأنهم إلى علم منصوب يمضون‏.‏ قرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص ‏{‏إلى نُصُبٍ‏}‏ بضم النون والصاد يعني‏:‏ أصناماً لهم، كقوله‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالازلام ذلكم فِسْقٌ اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً فَمَنِ اضطر فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏، والباقون ‏{‏إلى نُصُبٍ‏}‏ يعني‏:‏ إلى علم يستبقون‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ الإيفاض‏:‏ الإسراع‏.‏ ‏{‏خاشعة أبصارهم‏}‏ يعني‏:‏ ذليلة أبصارهم‏.‏ ‏{‏تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ‏}‏ يعني‏:‏ تغشاهم مذلة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ اليوم الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يوعدون فيه العذاب، وهم له منكرون؛ وصلى الله على سيدنا محمد‏.‏

سورة نوح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 14‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏1‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏2‏)‏ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ‏(‏3‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ‏(‏5‏)‏ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ‏(‏6‏)‏ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ‏(‏9‏)‏ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ‏(‏10‏)‏ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ‏(‏11‏)‏ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ‏(‏12‏)‏ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ‏(‏13‏)‏ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ‏}‏ يعني‏:‏ جعله الله رسولاً إلى قومه‏.‏ ‏{‏أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ‏}‏ يعني‏:‏ أن خوف قومك بالنار لكي يؤمنوا بالله‏.‏ ‏{‏مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ الطوفان والغرق‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم نوح عليه السلام‏:‏ ‏{‏إلى قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ يعني‏:‏ قال نوح لقومه أنبئكم بلغة تعرفونها‏؟‏ ‏{‏أَنِ اعبدوا الله‏}‏ يعني‏:‏ أنذركم وأقول لكم اعبدوا الله، يعني‏:‏ وحدوا الله‏.‏ ‏{‏واتقوه‏}‏ يعني‏:‏ واخشوه واجتنبوا معاصيه‏.‏ ‏{‏وَأَطِيعُونِ‏}‏ فيما آمركم، ‏{‏يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ذنوبكم‏.‏ و«من» صلة‏.‏ ‏{‏وَيُؤَخّرْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يؤجلكم ‏{‏إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ يعني‏:‏ إلى منتهى آجالكم‏.‏ ‏{‏إِنَّ أَجَلَ الله‏}‏ يعني‏:‏ إن عذاب الله، ‏{‏إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ‏}‏ يعني‏:‏ لا يستطيع أن يؤخره أحد‏.‏ ‏{‏لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لو كان لكم علم تنتفعون به‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبّ‏}‏ يعني‏:‏ دعا نوح بعد ما كذبوه في طول المدة، قال‏:‏ رب يعني‏:‏ يا رب، ‏{‏إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى‏}‏ إلى التوحيد ‏{‏لَيْلاً وَنَهَاراً‏}‏ يعني‏:‏ في كل وقت سراً وعلانية‏.‏ ‏{‏فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً‏}‏ يعني‏:‏ إلى التوحيد تباعداً من الإيمان‏.‏ قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ‏}‏ إلى التوحيد، ‏{‏لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أصابعهم فِى ءاذانهم‏}‏ يعني‏:‏ لا يسمعون دعائي، ‏{‏واستغشوا ثِيَابَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ غطوا رؤوسهم بثيابهم لكي لا يسمعوا كلامي‏.‏ ‏{‏وَأَصَرُّواْ‏}‏ يعني‏:‏ أقاموا على الكفر والشرك، ‏{‏واستكبروا استكبارا‏}‏ يعني‏:‏ تكبروا عن الإيمان تكبراً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنّى دَعَوْتُهُمْ جهارا‏}‏ يعني‏:‏ دعوتهم إلى الإيمان علانية من غير خفية، ‏{‏ثُمَّ إِنّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ صحت لهم، ‏{‏وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً‏}‏ يعني‏:‏ خلطت دعاءهم بالعلانية بدعائهم في السر‏.‏ ‏{‏فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ توبوا وارجعوا من ذنوبكم، يعني‏:‏ الشرك والفواحش‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً‏}‏ يعني‏:‏ غفاراً لمن تاب من الشرك‏.‏ ‏{‏يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً‏}‏ يعني‏:‏ المطر دائماً كلما احتاجوا إليه‏.‏ ‏{‏وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ يعطيكم أموالاً وأولاداً، ‏{‏وَيَجْعَل لَّكُمْ جنات‏}‏ يعني‏:‏ البساتين، ‏{‏وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً‏}‏ يعني‏:‏ في الجنات‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً‏}‏‏؟‏ ما لكم لا تخافون لله عظمة في التوحيد‏؟‏ وهو قول الكلبي ومقاتل؛ وقال قتادة‏:‏ مالكم لا ترجون لله عاقبة‏؟‏ ويقال‏:‏ ما لكم لا ترجون عاقبة الإيمان‏؟‏ يعني‏:‏ في الجنة‏.‏ وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ ما لكم لا تعلمون حق عظمته‏؟‏ وقال مجاهد‏:‏ ما لكم لا ترجون لله عظمة‏؟‏ ‏{‏وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً‏}‏ يعني‏:‏ خلقاً بعد خلق وحالاً بعد حال، نطفة، ثم علقة، ثم مضغة‏.‏ فمعناه‏:‏ ما لكم لا توحدون، وقد خلقكم ضروباً‏؟‏ ويقال‏:‏ أراد به اختلاف الأخلاق والمنطق، ويقال أراد به المناظرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 28‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا ‏(‏15‏)‏ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ‏(‏16‏)‏ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ‏(‏18‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ‏(‏19‏)‏ لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا ‏(‏20‏)‏ قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏21‏)‏ وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ‏(‏22‏)‏ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ‏(‏23‏)‏ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا ‏(‏24‏)‏ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا ‏(‏25‏)‏ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ‏(‏27‏)‏ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

ثم وعظهم ليعتبروا، فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ ألم تنظروا فتعتبروا، كيف خلق الله تعالى ‏{‏سَبْعَ سموات طِبَاقاً‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ مطبقاً بعضها فوق بعض‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً‏}‏ يعني‏:‏ ضياءً لبني آدم‏.‏ وإنما قال‏:‏ ‏{‏فِيهِنَّ‏}‏ أراد به سماء الدنيا، لأنها إحداهن‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً‏}‏ يعني‏:‏ نوراً للخلق؛ ويقال‏:‏ ‏{‏جَعَل القمر فِيهِنَّ نُوراً‏}‏ يعني‏:‏ في جميع السموات، لأن إحداهن مضيء لأهل السموات وظهره لأهل الأرض؛ ويقال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً‏}‏ يعني‏:‏ معهن نوراً‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الارض نَبَاتاً‏}‏ يعني‏:‏ خلقكم في الأرض خلقاً‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ خلقكم من الأرض وهو آدم عليه السلام وأنتم من ذريته‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا‏}‏ يعني‏:‏ بعد الموت‏.‏ ‏{‏وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً‏}‏ يعني‏:‏ يخرجكم من الأرض يوم القيامة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله جَعَلَ لَكُمُ الارض بِسَاطاً‏}‏ يعني‏:‏ فراشاً، ‏{‏لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا‏}‏ يعني‏:‏ فتمضوا فيها وتأخذوا فيها ‏{‏سُبُلاً فِجَاجاً‏}‏ يعني‏:‏ طرقاً بين الجبال والرمال؛ ويقال‏:‏ طرقاً واسعة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى‏}‏ فيما أمرتهم من توحيد الله تعالى، ‏{‏واتبعوا‏}‏ يعني‏:‏ أطاعوا ‏{‏مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ‏}‏ يعني‏:‏ أطاعوا من لم يزده ماله يعني‏:‏ كثرة أمواله ‏{‏وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً‏}‏ أي‏:‏ خسراناً في الآخرة‏.‏ ‏{‏وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً‏}‏ يعني‏:‏ مكراً عظيماً؛ ويقال‏:‏ مكروا مكراً كبيراً يعني‏:‏ قالوا كلمة الشرك‏.‏ والكبير والكبار بمعنى واحد‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ قال بعضهم لبعض‏:‏ ويقال‏:‏ قال الرؤساء للسفلة‏:‏ لا تذرن، يعني‏:‏ لا تتركوا عبادة آلهتكم‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً‏}‏، فهذه أسماء الأصنام التي كانوا يعبدونها يعني‏:‏ لا تتركوا عبادة هذه الأصنام قرأ نافع ‏{‏وُدّاً‏}‏ بضم الواو، والباقون بالنصب، ومعناهما واحد‏.‏ وهو اسم الصنم، وقال قتادة‏:‏ هذه الآلهة كان يعبدها قوم نوح، ثم عبدها العرب بعد ذلك‏.‏ وقال القتبي ‏{‏الود‏}‏ صنم، ومنه كانت العرب تسمى «عبد ود»، وكذلك تسمي «عبد يغوث»‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً‏}‏ يعني‏:‏ هذه الأصنام أضلوا كثيراً من الناس، يعني‏:‏ ضلوا بهن كثيراً من الناس، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ‏}‏ كثيراً من الناس‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً‏}‏ يعني‏:‏ خساراً وغبناً‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏مّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ‏}‏ يعني‏:‏ بشركهم بالله تعالى أُغرقوا في الدنيا‏.‏ ‏{‏فَأُدْخِلُواْ نَاراً‏}‏ في الآخرة‏.‏ قال مقاتل‏:‏ ‏{‏بِمَا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ‏}‏ بخطياتهم؛ وقال القتبي‏:‏ ‏(‏بما خطياتهم أغرقوا‏)‏ يعني‏:‏ من خطيئاتهم أغرقوا، والميم زيادة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ الله أَنصَاراً‏}‏ يعني‏:‏ أعواناً يمنعونهم من العذاب‏.‏

قرأ أبو عمرو ‏{‏خطاياهم‏}‏، والباقون ‏{‏خطيئاتهم‏}‏ ومعناهما واحد، وهو جمع خطيئة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الارض مِنَ الكافرين دَيَّاراً‏}‏ يعني‏:‏ لا تدع على ظهر الأرض من الكافرين دياراً، يعني‏:‏ أحداً منهم؛ ويقال‏:‏ أصله من الدار يعني‏:‏ نازلاً بها، ويقال‏:‏ في الدار أحد وما بها ديار؛ وأصله ديوار، فقلبت الواو ياء ثم شددت وأدغمت الياء في الياء‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ‏}‏ يعني‏:‏ إنك إن تتركهم ولم تهلكهم، يدعوا الموحدين إلى الكفر‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً‏}‏ يعني‏:‏ يكون منهم الأولاد، يكفرون ويفجرون بعد البلوغ؛ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ ولا يلدوا إلا أن يكونوا فجاراً كفاراً‏.‏ وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ»‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏رَّبّ اغفر لِى ولوالدى وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِناً‏}‏ يعني‏:‏ سفينتي وديني‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ ‏{‏وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِناً‏}‏ يعني‏:‏ مسجدي‏.‏ ‏{‏وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً‏}‏ يعني‏:‏ لا تزد الكافرين إلا هلاكاً، كقوله‏:‏ ‏{‏عَلَوْاْ تَتْبِيرًا‏}‏‏.‏ وروى عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه كان إذا قرأ القرآن في الليل، فمر بآية فيقول لي‏:‏ يا عكرمة ذكرني عند هذه الآية غداً‏.‏ فقرأ ذات ليلة هذه الآية، فقال‏:‏ يا عكرمة، ذكرني غداً‏.‏ فذكرته ذلك، فقال‏:‏ إن نوحاً دعا بهلاك الكافرين، ودعا للمؤمنين بالمغفرة، وقد استجيب دعاؤه في المؤمنين، فيغفر الله تعالى للمؤمنين والمؤمنات بدعائه، وبهلاك الكافرين فأهلكوا‏.‏ وروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «نَجَاةُ المُؤْمِنِينَ فِي ثَلاَثَةِ أشْيَاءٍ‏:‏ بِدُعَاءِ نُوْحٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَبِدُعَاءِ إِسْحَاقَ عليه السلام وَبِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» يعني‏:‏ للمؤمنين والله أعلم‏.‏

سورة الجن

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا ‏(‏1‏)‏ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ‏(‏2‏)‏ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ‏(‏3‏)‏ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ‏}‏ يعني‏:‏ قل يا محمد أوحى الله إلي، وأخبرني الله تعالى في القرآن‏.‏ ‏{‏أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن‏}‏، وهم تسعة من أهل نصيبين، من أهل اليمن، من أشرافهم‏.‏ والنفر ما بين الثلاثة إلى العشرة‏.‏ وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين السماء أي‏:‏ بين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فقالوا‏:‏ ما هذا إلا لشيء حدث؛ فضربوا مشارق الأرض ومغاربها، يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء‏.‏ فوجدوا النفر الذين خرجوا نحو تهامة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة، وهو يصلي مع أصحابه صلاة الفجر، فاستمعوا منه، فقالوا‏:‏ هذا والله الذي حال بيننا وبين خبر السماء‏.‏ فرجعوا إلى قومهم ‏{‏فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً * يَهْدِى إِلَى الرشد‏}‏، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن‏}‏ يعني‏:‏ طائفة وجماعة من الجن، فقالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَمِعْنَا‏}‏ يعني‏:‏ قالوا بعدما رجعوا إلى قومهم‏:‏ ‏{‏قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ‏}‏ يعني‏:‏ عزيزاً شريفاً كريماً، ويقال‏:‏ عزيزاً لا يوجد مثله‏.‏ ‏{‏يَهْدِى إِلَى الرشد‏}‏ يعني‏:‏ يدعو إلى الهدى، وهو الإسلام‏.‏ ويقال‏:‏ إلى الصواب، والتوحيد، والأمر والنهي‏.‏ ويقال‏:‏ يدل على الحق‏.‏ ‏{‏يَهْدِى إِلَى‏}‏ يعني‏:‏ صدقنا بالقرآن‏.‏ ويقال‏:‏ آمنا بالله تعالى‏.‏ ‏{‏وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً‏}‏ يعني‏:‏ إبليس، يعني‏:‏ لن نشرك بعبادته أحداً من خلقه‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا‏}‏ أي‏:‏ ارتفع عظمة ربنا؛ ويقال‏:‏ ارتفع ذكره، ويقال‏:‏ ارتفع ملكه وسلطانه‏.‏ ‏{‏مَا اتخذ صاحبة وَلاَ وَلَداً‏}‏ يعني‏:‏ لم يتخذ زوجة ولا ولداً، كما زعم الكفار‏.‏ واتفق القراء في قوله‏:‏ ‏{‏أَنَّهُ استمع نَفَرٌ‏}‏ على نصب الألف، لأن معناه قل‏:‏ أوحي إلي بأنه استمع‏.‏ واتفقوا في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَمِعْنَا‏}‏ على الكسر، لأنه على معنى الابتداء‏.‏ واختلفوا فيما سوى ذلك‏.‏ قرأ حمزة، والكسائي، وابن عامر كلها بالنصب بناء على قوله‏:‏ ‏{‏أَنَّهُ استمع‏}‏، إلا في حرفين أحدهما ‏{‏فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ‏}‏ بالكسر، والأخرى قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ‏}‏ بالكسر على معنى الابتداء‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وابن كثير كلها بالكسر، إلا في أربعة أحرف‏:‏ ‏{‏قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ استمع‏}‏، ‏{‏وَإِنَّ لُوطاً استقاموا‏}‏، ‏{‏وَأَنَّ المساجد‏}‏، ‏{‏وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ‏}‏‏.‏ قرأ عاصم في رواية أبي بكر، ونافع في إحدى الروايتين هكذا، إلا في قوله وأنه لما قام عبد الله وإنما اختاروا الكسر لهذه الأحرف، بناء على قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَمِعْنَا‏}‏ وقال أبو عبيد‏:‏ ما كان من قول الجن، فهو كسر، ومعناه وقالوا‏:‏ إنه تعالى وقالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَان يِقُولُ‏}‏ وما كان محمولاً على قوله أوحى فهو نصب على معنى أوحي إلي أنه ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطاً‏}‏ يعني‏:‏ جاهلنا يعني‏:‏ إبليس لعنه الله ويقال‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا‏}‏ يعني‏:‏ كفرة الجن‏.‏ ‏{‏عَلَى الله شَطَطاً‏}‏ يعني‏:‏ كذباً وجوراً من المقال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 17‏]‏

‏{‏وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ‏(‏5‏)‏ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ‏(‏6‏)‏ وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ‏(‏7‏)‏ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ‏(‏8‏)‏ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ‏(‏9‏)‏ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ‏(‏10‏)‏ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ‏(‏11‏)‏ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا ‏(‏12‏)‏ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ‏(‏13‏)‏ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ‏(‏14‏)‏ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ‏(‏15‏)‏ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ‏(‏16‏)‏ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا ظَنَنَّا‏}‏ يعني‏:‏ حسبنا ‏{‏أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً‏}‏ يعني نتوهم أن أحداً لا يكذب على الله، وإلى هاهنا حكاية كلام الجن‏.‏

يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس‏}‏ يعني‏:‏ في الجاهلية ‏{‏يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن‏}‏، وذلك أن الرجل إذا نزل في فضاء من الأرض، كان يقول أعوذ بسيد هذا الوادي، فيكون في أمانهم تلك الليلة‏.‏ ‏{‏فَزَادوهُمْ رَهَقاً‏}‏ يعني‏:‏ زادوا للجن عظمة وتكبروا، ويقولون‏:‏ بلغ من سُؤُدُدنا أن الجن والإنس يطلبون منا الأمان، ‏{‏وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ‏}‏ يعني‏:‏ كفار الجن حسبوا كما حسبتم يا أهل مكة، ‏{‏أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً‏}‏ يعني‏:‏ بعد الموت، يعني‏:‏ إنهم كانوا غير مؤمنين، كما أنكم لا تؤمنون‏.‏ ويقال‏:‏ إنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً يعني‏:‏ رسولاً‏.‏ فقد أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم رجع إلى كلام الجن، فقال‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء‏}‏ يعني‏:‏ صعدنا وأتينا السماء لاستراق السمع‏.‏ ‏{‏فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً‏}‏ يعني‏:‏ حفاظاً أقوياء من الملائكة‏.‏ ‏{‏وَشُهُباً‏}‏ يعني‏:‏ رُمينا نجماً متوقداً‏.‏ ‏{‏وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ‏}‏ يعني‏:‏ كنا نقعد فيما مضى للاستماع من الملائكة، ما يقولون فيما بينهم من الكوائن‏.‏ ‏{‏فَمَن يَسْتَمِعِ الان يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً‏}‏ يعني‏:‏ نجماً مضيئاً‏.‏ والرصد‏:‏ الذي أرصد للرجم يعني‏:‏ النجم‏.‏ وروى عبد الرزاق، عن معمر قال‏:‏ قلت للزهري‏:‏ أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قلت‏:‏ أفرأيت قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن يَسْتَمِعِ الان يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً‏}‏ قال‏:‏ غلظ وشدد أمرها حين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال الجن بعضهم لبعض‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الارض‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ يبعثه فلم يؤمنوا فيهلكوا ‏{‏أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ خيراً وصواباً، فيؤمنوا ويهتدوا‏.‏ ويقال‏:‏ لا ندري أخيراً أريد بأهل الأرض أو الشرحين حرست السماء، ورُمينا بالنجوم، وَمُنعنا السمع‏؟‏ ويقال‏:‏ أريد عذاباً بمن في الأرض، بإرسال الرسول بالتكذيب له، أو أراد بهم ربهم خيراً ببيان الرسول لهم هدى وبياناً‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الصالحون‏}‏ يعني‏:‏ الموحدين والمسلمين‏.‏ ‏{‏وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ‏}‏ يعني‏:‏ ليسوا بموحدين‏.‏ ‏{‏كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً‏}‏ يعني‏:‏ فينا أهواء مختلفة وملل شتى‏.‏ وقال القتبي‏:‏ يعني‏:‏ فرقاً مختلفة، وكل فرقة قدة مثل القطعة في التقدير، والطرائق‏:‏ جمع الطريق‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا ظَنَنَّا‏}‏ يعني‏:‏ علمنا وأيقنا ‏{‏أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِى الارض‏}‏ يعني‏:‏ لا يفوت أحد من الله تعالى‏.‏ ‏{‏وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً‏}‏، لا يقدر الهرب منه‏.‏

قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى‏}‏ يعني‏:‏ القرآن يقرؤه محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏بِهِ إِنَّهُ‏}‏ يعني‏:‏ صدقنا بالقرآن؛ ويقال‏:‏ بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ ويقال‏:‏ صدقنا بالله تعالى ‏{‏فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ‏}‏ قال بعضهم هذا من كلام الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم فمن يصدق بوحدانية الله تعالى، ‏{‏فَلاَ يَخَافُ بَخْساً‏}‏ يعني‏:‏ نقصاناً من ثواب عمله، ‏{‏وَلاَ رَهَقاً‏}‏ يعني‏:‏ ذهاب عمله‏.‏

وهذا كقوله تعالى ‏{‏فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً‏}‏‏.‏ ‏{‏وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 112‏]‏ ويقال‏:‏ هذا كلام الجن بعضهم لبعض، ‏{‏فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً‏}‏‏.‏ والرهق‏:‏ الظلم أن يجعل ثواب عمله لغيره‏.‏ والبخس النقصان من ثواب عمله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا المسلمون‏}‏ يعني‏:‏ المصدقين بوحدانية الله تعالى، ‏{‏وَمِنَّا القاسطون‏}‏ يعني‏:‏ العادلين عن طريق الهدى؛ ويقال‏:‏ ‏{‏القاسطون‏}‏ يعني‏:‏ الجائرين‏.‏ يقال‏:‏ قسط الرجل، إذا جار‏.‏ وأقسط، إذا عدل‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين‏}‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَسْلَمَ‏}‏ يعني‏:‏ أقر بوحدانية الله تعالى وأخلص بالتوحيد له، ‏{‏فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً‏}‏ يعني‏:‏ نوراً وتمنوا وقصدوا ثواباً‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا القاسطون‏}‏ يعني‏:‏ العادلين عن الطريق، الجائرين، ‏{‏فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً‏}‏ يعني‏:‏ وقوداً قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ لُوطاً *** استقاموا عَلَى الطريقة‏}‏‏.‏ قال مقاتل‏:‏ لو استقاموا على طريقة الهدى، يعني‏:‏ أهل مكة، ‏{‏لاسقيناهم مَّاء غَدَقاً‏}‏ يعني‏:‏ كثيراً من السماء، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءَامَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مِّنَ السمآء والارض ولكن كَذَّبُواْ فأخذناهم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 96‏]‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏}‏ يعني‏:‏ لنبتليهم به، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 33‏]‏ الآية‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ لُوطاً *** استقاموا عَلَى الطريقة‏}‏، يعني‏:‏ آمنوا لوسّع الله عليهم الرزق؛ وقال القتبي‏:‏ هذا مثل ضربه الله تعالى للزيادة في أموالهم ومواشيهم، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ‏}‏ يعني‏:‏ توحيد ربه؛ ويقال‏:‏ يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، ‏{‏يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً‏}‏ يعني‏:‏ يكلفه الصعود على جبل أملس‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏عَذَاباً صَعَداً‏}‏ أي‏:‏ شدة العذاب‏.‏ وقال القتبي‏:‏ يعني‏:‏ شاقاً؛ وقال قتادة‏:‏ صعوداً من عذاب الله تعالى، لا راحة فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 28‏]‏

‏{‏وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ‏(‏18‏)‏ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ‏(‏19‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ‏(‏20‏)‏ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا ‏(‏21‏)‏ قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ‏(‏22‏)‏ إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ‏(‏23‏)‏ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ‏(‏24‏)‏ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ‏(‏25‏)‏ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ‏(‏26‏)‏ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ‏(‏27‏)‏ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ‏}‏‏.‏ قال الحسن‏:‏ يعني‏:‏ الصلاة لله تعالى؛ وقال قتادة‏:‏ كانت اليهود والنصارى يدخلون كنائسهم، ويشركون بالله تعالى‏.‏ فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخلص الدعوة له إذا دخل المسجد‏.‏ وقال القتبي‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ‏}‏ يعني‏:‏ السجود لله‏.‏ ويقال‏:‏ هي المساجد بعينها يعني‏:‏ بنيت المساجد، ليعبدوا الله تعالى فيها‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً‏}‏ يعني‏:‏ لا تعبدوا أحداً غير الله تعالى‏.‏ قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم ‏{‏يَسْلُكْهُ‏}‏ بالياء، والباقون بالنون، وكلاهما يرجع إلى معنى واحد‏.‏ يقال‏:‏ سلكت الخيط في الإبرة وأسلكته، إذا أدخلته‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله‏}‏ يعني‏:‏ محمداً صلى الله عليه وسلم لما قام إلى الصلاة ببطن نخلة‏.‏ ‏{‏يَدْعُوهُ‏}‏ يعني‏:‏ يصلي لله تعالى، ويقرأ كتابه‏.‏ ‏{‏كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً‏}‏ يعني‏:‏ يركب بعضهم بعضاً، ويقع بعضهم على بعض‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبّى‏}‏‏.‏ قرأ حمزة، وعاصم‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبّى‏}‏ على معنى الأمر، يعني‏:‏ قل يا محمد إنما أدعو ربي، يعني‏:‏ أعبده‏.‏ ‏{‏وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً‏}‏‏.‏ قرأ الباقون على معنى الخبر عنهم‏.‏ قرأ ابن عامر في رواية هشام ‏{‏عَلَيْهِ لِبَداً‏}‏ بضم اللام، والباقون بكسرها ومعناهما واحد‏.‏ وقال القتبي‏:‏ ‏{‏يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً‏}‏ أي‏:‏ يتلبدون به رغبة في استماع القرآن‏.‏ يقال‏:‏ لبدت به، أي‏:‏ لصقت به، ومعناه‏:‏ كادوا أن يلصقوا به‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً‏}‏ يعني‏:‏ لا أقدر لكم خذلاناً ولا هداية‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ الله أَحَدٌ‏}‏ يعني‏:‏ لن يمنعني من عذاب الله أحد إن عصيته، ‏{‏وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً‏}‏ يعني‏:‏ ملجأ ولا مفراً‏.‏ ‏{‏إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله ورسالاته‏}‏ يعني‏:‏ فذلك الذي يجيرني من عذاب الله؛ ويقال في الآية تقديم، ومعناه قل‏:‏ لا أملك لكم ضراً إلا أن أبلغكم رسالات ربي، يعني‏:‏ ليس بيدي شيء من الضر والنفع والهداية، إلا بتبليغ الرسالة‏.‏

‏{‏وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ في التوحيد، ولم يؤمن به، ‏{‏فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا أَبَداً‏}‏ أي‏:‏ مقيمين في النار أبداً، يعني‏:‏ دائماً‏.‏ وقد تم الكلام‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ‏}‏ من العذاب يعني‏:‏ لما رأوا العذاب، ويقال‏:‏ معناه أمهلهم حتى إذا رأوا ما يوعدون في الدنيا وفي الآخرة، ‏{‏فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ نَاصِراً‏}‏ يعني‏:‏ مانعاً من العذاب‏.‏ ‏{‏وَأَقَلُّ عَدَداً‏}‏ يعني‏:‏ رجالاً‏.‏

فقالوا‏:‏ متى هذا العذاب الذي تعدنا يا محمد‏؟‏ فنزل‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ما أدري أقريب ما توعدون من العذاب، ‏{‏أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَداً‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ أجلاً ينتهي إليه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عالم الغيب‏}‏ يعني‏:‏ هو عالم الغيب، ‏{‏فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً‏}‏ يعني‏:‏ هو الذي يعلم وقت نزول العذاب، ولا يطلع على غيبه أحداً من خلقه‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ‏}‏ يعني‏:‏ إلا من اختار لرسالته، فإنه يطلعه على ما يشاء من الغيب، ليكون دلالة لنبوته‏.‏ ‏{‏فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً‏}‏ يعني‏:‏ من الملائكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خلفه، ليحفظوه من الشياطين ‏{‏لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ ليعلموا الرسول أن الذي أنزل إليه من رسالات الله؛ وذلك أن الملائكة لو لم يرصدوهم، لما يستمعوا حين يقرأ جبريل، ثم يفشون ذلك قبل أن يخبرهم الرسول، فلا يكون بينهم وبين الأنبياء فرق، ولا يكون للأنبياء دلالة، ثم لا يقبل قولهم‏.‏

وروى أسباط، عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً‏}‏ إذا بعث إليه تعالى نبياً، جعل معه حفظة من الملائكة‏.‏ فإذا جاء الوحي من الله تعالى، قالت الملائكة‏:‏ هذا من الله‏.‏ فإذا جاءه الشيطان، قالت الحفظة‏:‏ هذا من الشيطان‏.‏

‏{‏لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ ليعلم الجن أن الرسل قد أبلغوا الرسالة لأنهم تمازحوا من استراق السمع‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ لم يجيء جبريل قط بالقرآن، إلا ومعه أربعة من الحفظة‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ الله تعالى عالم بما عند الأنبياء؛ ويقال‏:‏ عالم بهم‏.‏ ‏{‏وأحصى كُلَّ شَئ عَدَداً‏}‏ يعني‏:‏ عدد الملائكة، وعلم نزول العذاب ووقته وغير ذلك؛ والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏

سورة المزمل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ‏(‏1‏)‏ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏2‏)‏ نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ‏(‏3‏)‏ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ‏(‏7‏)‏ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَدَداً يأَيُّهَا المزمل‏}‏ يعني الملتف في ثيابه وأصله في اللغة المتزمل وهو الذي يتزمل في الثياب وكل من التف بثوبه فهو متزمل وقد تزمل فأدغمت التاء في التاء وشددت الزاي فقيل مزمل يعني النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏قُمِ اليل‏}‏ يعني قم الليل للصلاة ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ من الليل ‏{‏نّصْفَهُ‏}‏ يعني قم نصفه فاكتفى بذكر الفعل الأول من الثاني لأنه دليل عليه ‏{‏أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً‏}‏ يعني أو انقص من النصف قليلاً ‏{‏أَوْ زِدْ عَلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ زد على النصف يعني ما بين الثلث إلى الثلثين ثم قال‏:‏ ‏{‏وَرَتّلِ القرءان تَرْتِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ توسل فيه وقال الحسن بينه إذا قرأته فلما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين فنزلت الرخصة في آخر السورة، وقال مقاتل هذا قبل أن يفرض الصلوات الخمس، وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏وَرَتّلِ القرءان تَرْتِيلاً‏}‏ قال‏:‏ اقرأه حرفاً حرفاً وقال مجاهد‏:‏ أحب الناس إلى الله تعالى في القراءة أعقلهم عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ سننزل عليك القرآن بالأمر والنهي يعني‏:‏ يثقل لما فيه من الأمر والنهي والحدود وكان هذا في أول الأمر ثم سهل الله تعالى الأمر في قيام الليل، وقال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً‏}‏ قال‏:‏ يثقل الله فرائضه وحدوده‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ قيام الليل ثقيل على المجرمين، ويقال‏:‏ ثقيل على من خالفه، ويقال‏:‏ ثقيل في الميزان خفيف على اللسان، ويقال‏:‏ نزوله ثقيل كما قال‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الامثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 21‏]‏ الآية وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت حرائها وما تستطيع أن تتحرك حتى يسري عنه أي‏:‏ يذهب عنه ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ نَاشِئَةَ اليل هِىَ أَشَدُّ‏}‏ يعني‏:‏ ساعات الليل أشد موافقة للقراءة وأسمع، ويقال هي أشد نشاطاً من النهار إذا كان الرجل محتسباً، ويقال‏:‏ هي أوفى لقلوبهم ‏{‏وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً‏}‏ وأبين وأصوب وأثبت قراءة، وقال القتبي‏:‏ ناشئة الليل يعني‏:‏ ساعاته وهي مأخوذة من نشأت أي‏:‏ ابتداء شيئاً بعد شيء فكأنه قال‏:‏ إن ساعات الليل الناشئة فاكتفى بالوصف من الاسم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَشَدَّ‏}‏ يعني‏:‏ أثقل على المصلي من ساعات النهار فأخبر أن الثواب على قدر الشدة وأقوم قيلاً يعني‏:‏ أخلص للقول وأسمع له لأن الليل تهدأ فيه الأصوات وتنقطع فيه الحركات قرأ أبو عمرو وابن عامر أشد وطأ بكسر الواو ومد الألف والباقون بنصب الواو بغير مد فمن قرأ بالكسر يعني‏:‏ أشد وطأ أي‏:‏ موافقة لقلة السمع يعني‏:‏ أن القرآن في الليل يتواطأ فيه قلب المصلي ولسانه وسمعه على التفهم يعني‏:‏ أبلغ في القيام وأبين في القول‏.‏

ويقال‏:‏ أغلظ على اللسان‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قِيلاً إِنَّ لَكَ فِى النهار سَبْحَاً طَوِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ فراغاً طويلاً بقضاء حوائجك فيه ففرغ نفسك لصلاة الليل، وقال القتبي‏:‏ سبحاً أي‏:‏ تصرفاً إقبالاً وإدباراً بحوائجك وأشغالك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏واذكر اسم رَبّكَ‏}‏ يعني اذكر توحيد ربك ويقال‏:‏ فاذكر ربك‏.‏ ويقال‏:‏ صل لربك ‏{‏وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ أخلص إليه إخلاصاً في دعائك بعبادتك وهو قول مجاهد وقتادة ويقال‏:‏ وتبتل إليه تبتيلاً يعني‏:‏ انقطع إليه وأصل التبتل القطع قيل لمريم العذراء البتول لأنها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 19‏]‏

‏{‏رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ‏(‏9‏)‏ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ‏(‏10‏)‏ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ‏(‏11‏)‏ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا ‏(‏12‏)‏ وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏13‏)‏ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا ‏(‏14‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ‏(‏15‏)‏ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ‏(‏16‏)‏ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ‏(‏17‏)‏ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ‏(‏18‏)‏ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏رَّبُّ المشرق والمغرب‏}‏ قرأ حمزة وابن عامر والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر رب المشرق بالكسر والباقون رب بالضم فمن قرأ بالكسر وتبعه قوله واذكر اسم ربك رب المشرق والمغرب ومن قرأ بالضم فهو على الابتداء ويقال‏:‏ معناه‏:‏ هو رب المشرق والمغرب‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ وقد ذكرناه ‏{‏فاتخذه وَكِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ ولياً وحافظاً وناصراً وكفيلاً ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏واصبر على مَا يَقُولُونَ‏}‏ يعني‏:‏ على ما يقولون من التكذيب والإذاء ‏{‏واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ اعتزلهم اعتزالاً حصناً بلا جزع ولا فحش ثم قال‏:‏ ‏{‏وَذَرْنِى والمكذبين‏}‏ هذا كلام على ما جرت به عادات الناس لأن الله تعالى لا يحول بينه وبين إرادته أحد ولكن معناه‏:‏ فوض أمورهم إليَّ يعني‏:‏ أمور المكذبين ‏{‏أُوْلِى النعمة‏}‏ يعني ذا المال والغنى ‏{‏وَمَهّلْهُمْ قَلِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ أجلهم يسيراً لأن الدنيا كلها قليل يعني‏:‏ إلى يوم القيامة ثم بين ما لهم من العقوبة يوم القيامة فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً‏}‏ يعني‏:‏ قيوداً في الآخرة، ويقال‏:‏ عقوبة من ألوان العذاب ‏{‏وَجَحِيماً‏}‏ ما عظم من النار ‏{‏وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً‏}‏ يعني‏:‏ ذا شوك مستمسك في الحلق لا يدخل ولا يخرج فيبقى في الحلق ومع ذلك لهم عذاب أليم قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ الارض‏}‏ يوم تتحرك وتتزلزل صار اليوم منصوباً لنزع الخافض يعني‏:‏ هذه العقوبة في يوم ترجف الأرض ‏{‏والجبال وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ صارت الجبال رملاً سائلاً وهو كقوله‏:‏ فكانت هباءً منبثاً ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهدا عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ محمداً صلى الله عليه وسلم يشهد عليكم بتبليغ الرسالة ‏{‏كَمَا أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً‏}‏ يعني‏:‏ موسى بن عمران ‏{‏فعصى فِرْعَوْنُ الرسول‏}‏ يعني‏:‏ كذبه ولم يقبل قوله‏:‏ ‏{‏فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ عاقبناه عقوبة شديدة وهو الغرق فهذا تهديد لهم يعني‏:‏ إنكم إن كذبتموه فهو قادر على عقوبتكم قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ‏}‏ يعني‏:‏ توجدون في الآخرة إن كفرتم في الدنيا، ويقال فيه تقديم ومعناه‏:‏ إن كفرتم في الدنيا كيف تحذرون وتنجون‏.‏ ‏{‏يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة من هيبته يشيب الصبيان وهذا على وجه المثل لأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان ولكن معناه أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان هناك صبي يشيب رأسه من الهيبة ويقال‏:‏ هذا وقت الفزع قبل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ انشقت السماء من هيبة الرحمن ‏{‏كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً‏}‏ يعني‏:‏ كائناً في البعث ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ هذه الصورة موعظة ‏{‏فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ من أراد أن يؤمن ويتخذ بذلك التوحيد إلى ربه مرجعاً فليفعل وقال أهل اللغة في قوله‏:‏ السماء منفطر به ولم يقل منفطرة به فالتذكير على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه انصرف إلى المعنى ومعنى السماء السقف كقوله

‏{‏وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ ءاياتها مُعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 32‏]‏، والثاني‏:‏ أن معناه السماء ذات الانفطار كما يقال امرأة مرضع أي‏:‏ ذات رضاع على وجه النسب‏.‏ ويقال‏:‏ قوله السماء منفطر به يعني‏:‏ فيه شيء في يوم القيامة، ويقال‏:‏ يعني‏:‏ بالله تعالى يعني‏:‏ من هيبته قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ إن هذه الآيات التي ذكرت موعظة بليغة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً يعني‏:‏ من شاء أن يرغب فليرغب فقد أمكن له لأنه أظهر الحجج والدلائل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَىِ اليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي وابن كثير وعاصم ونصفه وثلثه كلاهما بالنصب والباقون بالكسر فمن قرأ بالنصب فهو على تفسير الأدنى كما قال‏:‏ أدنى من ثلثي الليل وكان نصفه وثلثه تفسير لذلك الأدنى ومن قرأ بالكسر فمعناه‏:‏ أدنى من نصفه وثلثه وقال الحسن لما نزل قوله ‏{‏قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ فكان قيام الليل فريضة فقام بها المؤمنون حولاً فأجهدهم ذلك وما كلهم قام بها فأنزل الله تعالى رخصة ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ‏}‏ فصار تطوعاً ولا بد من قيام الليل‏.‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَىِ اليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ‏}‏ ‏{‏وَطَائِفَةٌ مّنَ الذين مَعَكَ‏}‏ يعني‏:‏ وجماعة من المؤمنين معك تقومون نصف الليل وثلثه ‏{‏والله يُقَدّرُ اليل والنهار‏}‏ يعني‏:‏ يعلم ساعات الليل والنهار ‏{‏عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ‏}‏ يعني‏:‏ أن لن تطيعوه ولم تقدروا أن تحفظوا ما فرض الله عليكم على الدوام ويقال‏:‏ معناه‏:‏ لن تطيقوا حفظ ساعات الليل ‏{‏فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ تجاوز عنكم ورفع عنكم وجوب القيام ‏{‏فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان‏}‏ في صلاة الليل ويقال‏:‏ ‏{‏فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان‏}‏ في جميع الصلوات ‏{‏عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى‏}‏ علم الله تعالى أن منكم مرضى لا يقدرون على قيام الليل ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ‏}‏ يعني‏:‏ يسافرون في الأرض ‏{‏يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله‏}‏ يعني‏:‏ في طلب المعيشة يطلبون الرزق من الله تعالى وفي الآية دليل أن الكسب الحلال بمنزلة الجهاد لأنه جمع مع الجهاد في سبيل الله، وروى إبراهيم عن علقمة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَا مِنْ جَالِبٍ يَجْلِبُ طَعَامَاً مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَيَبِيعَهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ إلاَّ كَانَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ الله تَعَالَى مَنْزِلَةَ الشَّهِيدِ» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ‏}‏ يعني‏:‏ من القرآن ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا‏}‏ يعني‏:‏ الصلوات الخمس ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا‏}‏ يعني‏:‏ الزكاة المفروضة ‏{‏وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً‏}‏ يعني‏:‏ تصدقوا من أموالكم بنية خالصة من المال الحلال ‏{‏وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ‏}‏ يعني‏:‏ ما تعملون من عمل من الأعمال الصالحة يعني‏:‏ تتصدقون بنية خالصة ‏{‏تَجِدُوهُ عِندَ الله‏}‏ يعني‏:‏ تجدوا ثوابه في الآخرة‏.‏ ‏{‏هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً‏}‏ يعني‏:‏ الصدقة خير من الإمساك وأعظم ثواباً من معاملتكم وتجارتكم في الدنيا، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه اتخذ له حيساً يعني‏:‏ تمراً بلبن فجاءه مسكين فأخذه، ودفعه إليه فقال بعضهم‏:‏ ما يدري هذا المسكين ما هذا فقال عمر‏:‏ لكن رب المسكين يدري ما هو فكأنه تأول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً‏}‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏واستغفروا الله‏}‏ يعني‏:‏ اطلبوا المغفرة لذنوبكم بالرجوع إلى الله تعالى ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ لمن تاب رحيماً بعد التوبة والله أعلم بالصواب‏.‏

سورة المدثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ‏(‏1‏)‏ قُمْ فَأَنْذِرْ ‏(‏2‏)‏ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ‏(‏3‏)‏ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ‏(‏4‏)‏ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ‏(‏5‏)‏ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ‏(‏6‏)‏ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ‏(‏7‏)‏ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ‏(‏8‏)‏ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ‏(‏9‏)‏ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا المدثر‏}‏ يعني‏:‏ محمداً صلى الله عليه وسلم وقد تدثر بثوبه وأصله المتدثر بثيابه إذا نام فأدغمت التاء في الدال وشددت وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ في حديثه‏:‏ «فَبَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي إذْ سَمِعْتُ صَوتاً مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا المَلِكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحراء جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيَ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ فَخَشَيْتُ فَرَجِعْتُ إِلَى أَهْلِي فَقُلْتُ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَدَثَرُونِي فَنَزَلَ يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ» ‏{‏قُمْ فَأَنذِرْ‏}‏ يعني‏:‏ فخوف قومك وادعهم إلى التوحيد ويقال‏:‏ ‏{‏قُمْ فَأَنذِرْ‏}‏ يعني‏:‏ قم فصلِّ لله ويقال‏:‏ ‏{‏قُمْ فَأَنذِرْ‏}‏ يعني‏:‏ خوفهم بالعذاب إن لم يوحدوا يعني‏:‏ ادعهم من الكفر إلى الإيمان ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَرَبَّكَ فَكَبّرْ‏}‏ يعني‏:‏ فعظمه عما يقولون فيه عبدة الأوثان‏.‏ ويقال‏:‏ فكبر يعني‏:‏ فكبر للصلاة ثم قال‏:‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ‏}‏ يعني‏:‏ طهر قلبك بالتوبة عن الذنوب والمعاصي وهذا قول قتادة وقال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ قلبك فطهر بالتوبة وكانت العرب تقول للرجل إذا أذنب دنس الثياب وقال الفراء‏:‏ يعني‏:‏ ثيابك فقصر‏.‏ وقال الزجاج لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسة وإن كان طويلاً لا يؤمن أن يصيبه النجاسة ويقال‏:‏ يعني‏:‏ لا تقصر فتكون غادراً دنس الثياب وقال مجاهد‏:‏ وثيابك فطهر يعني‏:‏ نفسك فطهر ويقال‏:‏ عملك فأخلص ويقال‏:‏ ظنك فحسن ثم قال‏:‏ ‏{‏والرجز فاهجر‏}‏ يعني‏:‏ المأثم فاترك ويقال‏:‏ الرجز فاهجر يعني‏:‏ ارفض عبادة الأوثان قرأ عاصم في رواية حفص والرجز بضم الزاء والباقون بكسر الزاء ومعناهما واحد وهم الأوثان يعني‏:‏ فارفض عبادة الأوثان ويقال‏:‏ الرجز العذاب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 59‏]‏ ومعناه كل شيء يحرك إلى عذاب الله تعالى فاتركه ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ‏}‏ يعني‏:‏ لا تعط شيئاً قليلاً تطلب به أكثر وأفضل في الدنيا وقال الحسن ولا تمنن تستكثر يعني‏:‏ ولا تمنن بعملك على ربك تستكثره وقال مجاهد لا تعط مالك رجاء فضل من الثواب في الدنيا وقال الضحاك لا تعط ولتعطى أكثر منه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِرَبّكَ فاصبر‏}‏ يعني‏:‏ اصبر على أمر ربك قال إبراهيم النخعي‏:‏ اصبر لعظمة ربك وقال مقاتل‏:‏ ولربك فاصبر يعني‏:‏ يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذاهم ويقال‏:‏ فاصبر نفسك في عبادة ربك ‏{‏فَإِذَا نُقِرَ فِى الناقور‏}‏ يعني‏:‏ اصبر فعن قريب ينفخ في الصور‏.‏ ‏{‏فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِير عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ‏}‏ يعني‏:‏ شديداً على الكافرين غير يسير يعني‏:‏ غير هين وفي الآية دليل أن ذلك اليوم يكون على المؤمنين هيناً وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 26‏]‏ لأن الكفار يقطع رجاؤهم في جميع الوجوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 31‏]‏

‏{‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ‏(‏11‏)‏ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا ‏(‏12‏)‏ وَبَنِينَ شُهُودًا ‏(‏13‏)‏ وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ‏(‏14‏)‏ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ‏(‏15‏)‏ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا ‏(‏16‏)‏ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ‏(‏17‏)‏ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ‏(‏18‏)‏ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ‏(‏19‏)‏ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ‏(‏20‏)‏ ثُمَّ نَظَرَ ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ‏(‏22‏)‏ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ‏(‏23‏)‏ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ‏(‏24‏)‏ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ‏(‏25‏)‏ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ‏(‏26‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ‏(‏27‏)‏ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ‏(‏28‏)‏ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ‏(‏29‏)‏ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ‏(‏30‏)‏ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ‏(‏31‏)‏‏}‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً‏}‏ يعني‏:‏ اترك هذا الذي خلقته وحيداً وفوض أمره إليَّ وهو الوليد بن المغيرة خلقه الله تعالى وحيداً بغير مال ولا ولد ‏{‏وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً‏}‏ يعني‏:‏ ورزقته مالاً كثيراً قال مجاهد كان له مائة ألف دينار وكان بنوه عشرة وقال بعضهم‏:‏ كان ماله أربعة آلاف درهم ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَبَنِينَ شُهُوداً‏}‏ يعني‏:‏ حضوراً لا يغيبون عنه في التجارة ولا غيرهم وقال بعضهم‏:‏ ذرني ومن خلقت وحيداً يعني‏:‏ إنه لم يكن من قريش وكان ملصقاً بهم لأنه ذكر أن أباه المغيرة تبناه بعد ما أتت ثمانية أشهر ولم يكن منه كما قال الله تعالى ‏{‏عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 13‏]‏ ‏{‏وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً‏}‏ يعني‏:‏ غير منقطع عنه وبنين شهوداً لا يغيبون عنه ولا يحتاجون إلى التصرف وكان له عشرة من البنين وهذا قول الكلبي وغيره وقال مقاتل‏:‏ سبع بنين ‏{‏وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً‏}‏ يعني‏:‏ بسطت له في المال والخير بسطاً ويقال‏:‏ أمهلت له إمهالاً ‏{‏ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ‏}‏ يعني‏:‏ يطمع أن أزيد ماله وولده‏.‏ وذلك أنه تفاخر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لي‏:‏ مالاً ممدوداً ولي عشرة من البنين فلا يزال يزداد مالي وبني فنزل ثم يطمع أن أزيد يعني‏:‏ أن أزيد وهو يعصيني ‏{‏كَلاَّ‏}‏ يعني‏:‏ وهو رد عليه يعني‏:‏ لا أزيد فما أزداد ماله بعد ذلك ولا ولده ولكن أخذ في النقصان فهلك عامة ماله وولده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كان لاياتنا عَنِيداً‏}‏ يعني‏:‏ مكذباً معرضاً عنها معانداً ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً‏}‏ يعني‏:‏ يكلف في النار صعود جبل من صخرة ملساء في الباب الخامس تسمى سقر فإذا بلغ رأس العقبة دخل دخان في حلقة فيخرج من جوفه ما كان في جوفه من الأمعاء فإذا سقط في أسفل العقبة سقي من الحميم فإذا بلغ أعلاه انحط منه إلى أسفله من مسيرة سبعين سنة وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً‏}‏ يعني‏:‏ مشقة من العذاب وقال الزجاج‏:‏ سأحمله على مشقة من العذاب ويقال‏:‏ سأكلفه الصعود على عقبة شاقة والصعود والكؤود بمعنى واحد ثم ذكر خبث أفعاله الذي يستوجب به العقوبة فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ‏}‏ يعني‏:‏ إنه فكر في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقدر في أمره وقال ساحر يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ‏}‏ يعني‏:‏ فلعن كقوله‏:‏ ‏{‏قُتِلَ الخراصون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ‏{‏ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ‏}‏ وذلك حين اجتمعوا في دار الندوة ليدبروا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ هذه أيام الموسم والناس مجتمعون وقد فشا قول هذا الرجل في الناس وهم سائلون عنه فماذا تجيبون وتردون عليهم فقالوا نقول إنه مجنون وقال بعضهم‏:‏ إنهم يأتونه ويكلمونه فيجدونه فصيحاً عاقلاً فيكذبونكم فقالوا‏:‏ نقول شاعر قال بعضهم‏:‏ هم العرب وقد رأوا الشعراء وقوله‏:‏ لا يشبه الشعر فيكذبونكم قالوا‏:‏ نقول كاهن قال بعضهم‏:‏ إنهم لقوا الكهان وإذا سمعوا قوله وهو يستثني في كلامه المستقبل فيكذبونكم ففكر الوليد بن المغيرة ثم أدبر عنهم ثم رجع إليهم وقال‏:‏ فكرت في أمره فإذا هو ساحر يفرق بين المرء وزوجه وأقربائه فاجتمع رأيهم على أن يقولوا‏:‏ ساحر فقتل كيف قدر يعني‏:‏ كيف قدر بمحمد صلى الله عليه وسلم بالسحر ثم قتل يعني لعن مرة أخرى أي‏:‏ اللعنة على أثر اللعنة كيف قدر هذا التقدير الذي قال للكفرة إنه ساحر ‏{‏ثُمَّ نَظَرَ‏}‏ يعني‏:‏ ثم نظر في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏ثُمَّ عَبَسَ‏}‏ يعني‏:‏ عبس وجهه أي‏:‏ كلح وتغير لون وجهه وقال الزجاج‏:‏ ثم عبس وجهه ‏{‏وَبَسَرَ‏}‏ أي‏:‏ نظر بكراهة شديدة ‏{‏ثُمَّ أَدْبَرَ‏}‏ يعني أعرض عن الإيمان ‏{‏واستكبر‏}‏ يعني‏:‏ تكبر عن الإيمان ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ‏}‏ يعني‏:‏ تأثره من صاحب اليمامة يعني‏:‏ يرويه عن مسيلمة الكذاب ويقال‏:‏ معناه‏:‏ ما هذا الذي يقول‏:‏ إلا سحر يرويه عن جابر ويسار ويقال عن أهل بابل‏:‏ ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ البشر‏}‏ يعني‏:‏ ما هذا القرآن إلا قول الآدمي قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏سَأُصْلِيهِ سَقَرَ‏}‏ يعني‏:‏ سأدخله سقر قال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ الباب الخامس وقال الكلبي‏:‏ هو اسم من أسماء النار ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ‏}‏ تعظيماً لأمرها ثم بين قال‏:‏ ‏{‏لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ‏}‏ يعني‏:‏ لا تبقي لحماً إلا أكلته ولا تذرهم إذا أعيدوا فيها خلقاً جديداً، ويقال‏:‏ لا تبقي ولا تذر يعني‏:‏ لا تميت ولا تحيي، ويقال‏:‏ لا تبقى اللحم ولا العظم ولا الجلد إلا أحرقته ولا تذر لحماً ولا عظماً ولا جلداً أي‏:‏ تدعه محرقاً بل تجده خلقاً جديداً ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ‏}‏ يعني‏:‏ حراقة للأجساد شواهة للوجوه نزاعة للأعضاء وأصله في اللغة التسويد ويقال‏:‏ لاحته الشمس إذا غيرته وذلك أن الشيء إذا كان فيه دسومة فإذا أحرق اسود ثم قال‏:‏ ‏{‏عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ‏}‏ يعني‏:‏ على النار تسعة عشر من الملائكة مسلطون من رؤساء الخزنة وأما الزبانية فلا يحصى عددهم كما قال في سياق الآية‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ‏}‏‏.‏

وإنما أراد تسعة عشر ملكاً ومعهم ثمانية عشر أعينهم كالبرق الخاطف ويخرج لهب النار من أفواههم فنزعت عنهم الرأفة غضاب على أهلها يدفع أحدهم سبعين ألفاً فلما نزلت هذه الآية قال الوليد بن المغيرة لعنه الله‏:‏ أنا أكفيكم خمسة وكل ابن لي يكفي واحداً منهم وسائر أهل مكة يكفي أربعة منهم وقال رجل من المشركين وكان له قوة وأنا أكفيكموهم وحدي أدفع عشرة بمنكبي هذا وتسعة بمنكبي الأيسر فألقيهم في النار حتى يحترقوا وتجوزون حتى تدخلون الجنة فنزلت هذه الآية ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا أصحاب النار إلا مَلَئِكَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ ما سلطنا أعوان النار إلا ملائكة زبانية غلاظ شداد لا يغلبهم أحد ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ما ذكرنا قلة عددهم وهم تسعة عشر ‏{‏إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ يعني‏:‏ بلية لهم ‏{‏لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب‏}‏ وذلك أن أهل الكتاب وجدوا في كتابهم أن مالكاً رئيسهم وثمانية عشر من الرؤساء فبين لهم أنما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم يقوله‏:‏ بالوحي ‏{‏وَيَزْدَادَ الذين ءامَنُواْ إيمانا‏}‏ يعني‏:‏ تصديقاً وعلماً ‏{‏وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ يعلموا أنه حق وعدتهم كذلك ‏{‏والمؤمنون‏}‏ أيضاً لا يشكون في ذلك ‏{‏وَلِيَقُولَ الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين ‏{‏والكافرون‏}‏ يعني‏:‏ المشركين ‏{‏مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً‏}‏ يعني‏:‏ بذكر خزنة جهنم تسعة عشر يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَاء‏}‏ يعني‏:‏ يخذله ولا يؤمن به أمناً له ‏{‏وَيَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ يعني‏:‏ يوفقه لذلك ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ‏}‏ يعني‏:‏ من يعلم قوة جنود ربك وكثرتها إلا هو يعني‏:‏ الله تعالى ويقال‏:‏ وما يعلم يعني‏:‏ لا يعلم عدد جموع ربك إلا الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هِىَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ‏}‏ يعني‏:‏ الدلائل والحجج في القرآن ويقال‏:‏ ما هي يعني‏:‏ القرآن ويقال‏:‏ وما هي يعني‏:‏ سقر إلا ذكرى للبشر يعني‏:‏ عظه للخلق ثم أقسم الله تعالى لأجل سقر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 56‏]‏

‏{‏كَلَّا وَالْقَمَرِ ‏(‏32‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ‏(‏33‏)‏ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ‏(‏34‏)‏ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ‏(‏35‏)‏ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ‏(‏36‏)‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ‏(‏37‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ‏(‏38‏)‏ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ‏(‏39‏)‏ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏40‏)‏ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏41‏)‏ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ‏(‏42‏)‏ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ‏(‏43‏)‏ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ‏(‏44‏)‏ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ‏(‏45‏)‏ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏46‏)‏ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ‏(‏47‏)‏ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ‏(‏48‏)‏ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ‏(‏49‏)‏ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ‏(‏50‏)‏ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ‏(‏51‏)‏ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ‏(‏52‏)‏ كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏53‏)‏ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ‏(‏54‏)‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏(‏55‏)‏ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

فقال‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ رداً عليهم ‏{‏والقمر‏}‏ يعني‏:‏ وخالق القمر ‏{‏واليل إِذْ أَدْبَرَ‏}‏ يعني‏:‏ ذهب أقسم بخالق الليل ‏{‏والصبح إِذَا أَسْفَرَ‏}‏ أقسم بخالق الصبح ‏{‏إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر‏}‏ يعني‏:‏ سقر إحدى الكبر العظام وباب من أبواب النار قرأ نافع وحمزة وعاصم في رواية حفص والليل إذ بغير ألف أدبر بالألف والباقون إذا بالألف دبر بغير ألف وهما لغتان ومعناهما واحد دبر وأدبر ويقال دبر النهار وأدبر ودبر الليل وأدبر وقال مجاهد‏:‏ سألت ابن عباس عن قوله ‏{‏واليل إِذَا أَدْبَرَ‏}‏ فسكت حتى إذا كان آخر الليل قال يا مجاهد هذا حين دبر الليل ويقال‏:‏ الليل إذا أدبر يعني‏:‏ إذا جاء بعد النهار والصبح‏.‏ إذا أسفر يعني‏:‏ استضاء بأنها أي‏:‏ سقر لإحدى الكبر يعني‏:‏ أن سقر لأعظم درجات في النار ‏{‏نَذِيراً لّلْبَشَرِ‏}‏ يعني‏:‏ محمداً صلى الله عليه وسلم نذيراً للخلق وإنما صار نعتاً لأنه معناه تم نذيراً للبشر، ويقال‏:‏ إن العذاب الذي ذكر نذيراً للبشر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ‏}‏ يعني‏:‏ يتقدم في الخير أو يتأخر إلى المعصية فبينا لكم فهذا وعيد لكم لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الطاعة أو يتأخر إلى المعصية كقوله‏:‏ ‏{‏وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِى الوجوه بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏ ويقال‏:‏ معناه‏:‏ لمن شاء منكم أن يتقدم إلى التوبة فليوحد أو يتأخر عن التوبة فليقم على الكفر يعني‏:‏ نذيراً لمن شاء‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ كل كافر مرتهن بعمله ‏{‏إِلاَّ أصحاب اليمين‏}‏ يعني‏:‏ لكن أصحاب اليمين فإنهم ليسوا مرتهنين بعملهم يعني‏:‏ الذين أعطوا كتابهم بأيمانهم ويقال‏:‏ هم الذين عن يمين العرش، ويقال‏:‏ كل نفس بما كسبت رهينة عند المحاسبة إلا أصحاب اليمين قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ هم أطفال المسلمين يعني‏:‏ ليس عليهم حساب لأنهم لم يعملوا شيئاً ثم قال‏:‏ ‏{‏فِى جنات يَتَسَاءلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ إنهم في بساتين يتساءلون ‏{‏عَنِ المجرمين‏}‏ يعني‏:‏ يرون أهل النار يسألونهم ‏{‏مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ‏}‏ يعني‏:‏ ما الذي أدخلكم في سقر فأجابهم أهل النار‏:‏ ‏{‏قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين‏}‏ يعني‏:‏ لم نك نقر بالصلاة ولم نؤدها ‏{‏وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين‏}‏ يعني‏:‏ كنا لا نقر بالفرائض والزكاة ولا نؤديها‏.‏ ‏{‏وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين‏}‏ يعني‏:‏ كنا نستهزئ بالمسلمين ونخوض بالباطل ونرد الحق مع المبطلين المستهزئين ‏{‏وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدين‏}‏ يعني‏:‏ بيوم الحساب ‏{‏حتى أتانا اليقين‏}‏ يعني‏:‏ الموت والقيامة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعة الشافعين‏}‏ يعني‏:‏ لا يسألهم شفاعة الأنبياء وشفاعة الملائكة ‏{‏فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ‏}‏ فما للمشركين يعرضون عن القرآن والتوحيد ‏{‏كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ‏}‏ يشبههم بالحمر الوحشية المذعورة حين فروا من القرآن وكذبوا به قرأ نافع وابن عامر مستنفرة بنصب الفاء والباقون بالكسر فمن قرأ بالنصب فمعناه منفرة فإن الصائد نفرها ومن قرأ بالكسر ومعناه نافرة ويقال‏:‏ نفر واستنفر بمعنى واحد ثم قال‏:‏ ‏{‏فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ‏}‏ فقال أبو هريرة رضي الله عنه‏:‏ يعني‏:‏ الأسد وقال سعيد بن جبير رضي الله عنهم القناص يعني‏:‏ الصيادين وقال قتادة‏:‏ القسورة النبل يعني‏:‏ الرمي بالسهام وهو حس الناس وأصواتهم ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكة ‏{‏أَن يؤتى صُحُفاً‏}‏ وذلك أن كفار مكة قالوا إن الرجل من بني إسرائيل إذا أذنب ذنباً يصبح وذنبه وكفارته مكتوب عند رأسه فهل ترينا مثل ذلك إن كنت رسولاً فنزل ‏{‏قَسْوَرَةٍ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً‏}‏ يعني‏:‏ صحفاً مكتوب فيها جرمه وتوبته ويقال‏:‏ نزلت في شأن عبد الله بن أمية المخزومي حين قال‏:‏ لن نؤمن حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ يعني‏:‏ هذا لا يكون لهم أبداً ثم ابتداء فقال‏:‏ ‏{‏بَل لاَّ يَخَافُونَ الاخرة‏}‏ يعني‏:‏ البعث يعني‏:‏ لكن لا يخافون عذاب الآخرة ‏{‏كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ حقاً إن القرآن عظة للخلق ‏{‏فَمَن شَاء ذَكَرَهُ‏}‏ يعني‏:‏ من شاء أن يتعظ به فليتعظ ‏{‏وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء‏}‏ يعني‏:‏ إلا أن يشاء ‏{‏الله‏}‏ لهم، ويقال إلا أن يشاء الله منهم قرأ نافع وما تذكرون بالتاء على معنى المخاطبة والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة‏}‏ يعني‏:‏ هو أهل أن يتقي ولا يشرك به ويوحد ولا يعصى وأهل المغفرة يعني هو أهل أن يغفر لمن أطاعه ولا يشرك ويقال‏:‏ هو أهل أن يتقى وأهل المغفرة لمن اتقى والله الموفق‏.‏

سورة القيامة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ‏(‏1‏)‏ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ‏(‏2‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ‏(‏3‏)‏ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ‏(‏4‏)‏ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة‏}‏ أجمع أهل التفسير أن معناه أقسم، واختلفوا في تفسير لا‏.‏ قال بعضهم‏:‏ والكلام زيادة للزينة، ويجري في كلام العرب زيادة لا، كما في آية أخرى‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏ يعني‏:‏ أن تسجد‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لا رد لكلامهم، حيث أنكروا البعث‏.‏ فقال‏:‏ ليس الأمر كما ذكر‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة‏}‏ ويقال‏:‏ معناه أقسم برب يوم القيامة إنها كائنة‏.‏ ‏{‏وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة‏}‏ يعني‏:‏ أقسم بخالق النفس اللوامة، وهي نفس ابن آدم، يلوم نفسه‏.‏ كما روي عن ابن عباس، وعن عمر رضي الله عنهم‏:‏ ما من نفس برة وفاجرة، إلا تلوم نفسها، إن كانت محسنة تقول‏:‏ يا ليتني زدت إحساناً، وإن كانت سيئة تقول‏:‏ يا ليتني تركت‏.‏ ولم يذكر جواب القسم، لأن في الكلام دليلاً عليه، وهو قوله ‏{‏بلى قادرين‏}‏ ومعناه‏:‏ ولا أقسم بالنفس اللوامة، لتبعثن بعد الموت‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ الإنسان‏}‏ يعني‏:‏ أيظن الكافر ‏{‏أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ‏}‏ يعني‏:‏ أن لن يبعث الله بعد الموت‏.‏ نزلت في أبي بن خلف، ويقال‏:‏ في عدي بن الربيعة، لإنكار البعث بعد الموت‏.‏ يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏بلى قادرين‏}‏ يعني‏:‏ إن الله تعالى قادر ‏{‏على أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ‏}‏ يعني‏:‏ يجعل أصابعه ملتزقة، وألحق الراحة بالأنامل‏.‏ وهذا قول ابن عباس‏.‏ وقال القتبي‏:‏ فكأنه يقول‏:‏ أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه في الآخرة، بلى قادرين على أن نسوي بنانه، يعني‏:‏ أن نجمع ما صغر منه، ونؤلف بينه‏.‏ أي‏:‏ نعيد السلاميات على صغرها، ومن قدر على جمع هذا، فهو على جمع كبار العظام أقدر‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ على أن نسوي خفه كخف البعير، لا يعمل به شيئاً‏.‏ وقال سعيد بن جبير يعني‏:‏ كنف البعير، أو كحافر الدابة والحمر، لأنه ليس من دابة، إلا وهي تأكل بفمها غير الإنسان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ‏}‏ يعني‏:‏ يقدم ذنوبه، ويؤخر توبته ويقول‏:‏ سوف أتوب، ولا يترك الذنوب، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ ‏{‏لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ‏}‏ يعني‏:‏ يريد الذنوب في المستقبل‏.‏ وقال القتبي‏:‏ بل يريد الإنسان ليفجر أمامه، فقد كثرت فيه التفاسير‏.‏ وقال سعيد بن جبير سوف أتوب، وقال الكلبي‏:‏ يكثر الذنوب، ويؤخر التوبة‏.‏ وقال آخرون‏:‏ يتمنى الخطيئة، وفيه قول آخر على طريق الإنكار، بأن يكون الفجور بمعنى‏:‏ التكذيب بيوم القيامة، ومن كذب بالحق، فقد فجر، وأصل الفجور‏:‏ الميل‏.‏ فقيل‏:‏ للكاذب والمكذب والفاسق فاجر، لأنه مال عن الحق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 30‏]‏

‏{‏يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ‏(‏6‏)‏ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ‏(‏7‏)‏ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ‏(‏8‏)‏ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ‏(‏9‏)‏ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ‏(‏10‏)‏ كَلَّا لَا وَزَرَ ‏(‏11‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ‏(‏12‏)‏ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ‏(‏13‏)‏ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ‏(‏15‏)‏ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ‏(‏16‏)‏ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ‏(‏17‏)‏ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ‏(‏18‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ‏(‏19‏)‏ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ‏(‏20‏)‏ وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏21‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ‏(‏22‏)‏ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ‏(‏23‏)‏ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ‏(‏24‏)‏ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ‏(‏25‏)‏ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ‏(‏26‏)‏ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ‏(‏27‏)‏ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ‏(‏28‏)‏ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ‏(‏29‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة‏}‏ يعني‏:‏ يسأل متى يوم القيامة، تكذيباً بالبعث‏.‏ فكأنه قال‏:‏ بل يريد الإنسان أن يكذب بيوم القيامة، وهو أمامه، وهو يسأل متى يكون‏.‏ فبين الله تعالى في أي يوم يكون فقال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا بَرِقَ البصر‏}‏ يعني‏:‏ شخص البصر، وتحير‏.‏ قرأ نافع ‏{‏فَإِذَا بَرِقَ البصر‏}‏ بنصب الراء، والباقون بالكسر‏.‏ فمن قرأ بالنصب، فهو من برق يبرق بريقاً، ومعناه‏:‏ شخص فلا يطرق من شدة الفزع‏.‏ ومن قرأ بالكسر، يعني‏:‏ فزع وتحير‏.‏ وأصله‏:‏ أن الرجل إذا رأى البرق تحير، وإذا رأى من أعاجيب يوم القيامة، تحير ودهش‏.‏

‏{‏وَخَسَفَ القمر‏}‏ يعني‏:‏ ذهب ضوؤه ‏{‏وَجُمِعَ الشمس والقمر‏}‏ يعني‏:‏ كالثورين المقرنين‏.‏ ويقال‏:‏ برق البصر، وخسف القمر‏.‏ قال كوكب العين ذهب ضوؤه‏.‏ وروى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه أنه قال‏:‏ يجعلان في نور الحجاب‏.‏ ويقال‏:‏ جمع الشمس والقمر، يعني‏:‏ سوى بينهما في ذهاب نورهما، وإنما قال‏:‏ وجمع الشمس والقمر، ولم يقل وجمعت، لأن المؤنث والمذكر إذا اجتمعا، فالغلبة للمذكر‏.‏ ‏{‏يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر‏}‏ يقول‏:‏ أين الملجأ من النار‏؟‏ قرئ في الشاذ، أين المفر بالكسر للفاء، على معنى‏:‏ أين مكان الفرار‏.‏ وقراءة العامة بالنصب، يعني‏:‏ أين الفرار‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏كَلاَّ لاَ وَزَرَ‏}‏ يعني‏:‏ حقاً لا جبل يلجؤون إليه، فيمنعهم من النار، ولا شجر يواريهم‏.‏ والوزر في كلام العرب، الجبل الذي يلتجئ إليه، والوزر والستر هنا، الشيء الذي يستترون به‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ ولا وزر‏.‏ يعني‏:‏ منعه‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني‏:‏ لا حصن لهم يوم القيامة‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إلى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر‏}‏ يعني‏:‏ المرجع ‏{‏يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ‏}‏ يعني‏:‏ يسأل ويبين له، ويجازى بما قدم من الأعمال وأخر، من سنة صالحة أو سيئة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ جوارح العبد شاهدة عليه‏.‏ ومعناه على الإنسان من نفسه شاهد، يشهد عليه كل عضو بما فعل‏.‏ ويقال يعني‏:‏ جوارح، العبد شاهدة عليه، ومعناه رقيب بعضها على بعض‏.‏ والبصيرة أدخلت فيها الهاء للمبالغة، كما يقال‏:‏ رجل علامة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ على نفسه بصيرة، يعني‏:‏ بعيوب غيره، الجاهل بعيوب نفسه ‏{‏وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ‏}‏ يعني‏:‏ ولو تكلم بعذر لم يقبل منه‏.‏ ويقال‏:‏ ولو أرخى ستوره، يعني‏:‏ أنه شاهد على نفسه، وإن أذنب في الستور‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ‏}‏ يعني‏:‏ لا تعجل بقراءة القرآن، من قبل أن يفرغ جبريل عليه السلام من قراءته وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رضي الله عنهما قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا نزل عليه القرآن، تعجل به للحفظ فنزل‏:‏ ‏{‏لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ‏}‏ ‏{‏لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ‏}‏ يعني‏:‏ حفظه في قلبك ‏{‏وَقُرْءانَهُ‏}‏ يعني‏:‏ يقرأ عليك جبريل، حتى تحفظه ‏{‏فَإِذَا قرأناه فاتبع قُرْءانَهُ‏}‏ يعني‏:‏ إذا قرأ عليك جبريل فاقرأ أنت بعد قراءته وفراغه وقال محمد بن كعب‏:‏ فاتبع قراءته، يعني‏:‏ فاتبع حلاله وحرامه‏.‏

وقال الأخفش‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ‏}‏ يعني‏:‏ تأليفه ‏{‏فَإِذَا قرأناه فاتبع قُرْءانَهُ‏}‏ يعني‏:‏ تأليفه ‏{‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ يعني‏:‏ بيان أحكامه وحدوده‏.‏ ويقال‏:‏ علينا بيانه، يعني‏:‏ شرحه‏.‏ ويقال‏:‏ بيان فرائضه، كما بين على لسان النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم نزل بعد هذه الأحكام، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة‏}‏ يعني‏:‏ تحبون العمل للدنيا ‏{‏وَتَذَرُونَ الاخرة‏}‏ يعني‏:‏ تتركون العمل للآخرة‏.‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو بل يحبون بالياء، على معنى الخبر عنهم‏.‏ والباقون بالتاء، على معنى المخاطبة‏.‏ ثم بين حال ذلك اليوم فقال‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ حسنة مشرقة مضيئة، كما قال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 24‏]‏ ‏{‏وَإِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ ناظرين يومئذ إلى الله تبارك وتعالى‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ تنتظر الثواب من ربها‏.‏ وهذا القول لا يصح، لأنه مقيد بالوجوه، موصول بإلى، ومثل هذا، لا يستعمل في الانتظار‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ عابسة‏.‏ ويقال‏:‏ كريهة‏.‏ ويقال‏:‏ كاسفة ومسودة ‏{‏تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ تعلم أنه قد نزل بها العذاب والشدة‏.‏ يعني‏:‏ تعلم هذه الأنفس‏.‏ ويقال‏:‏ الفاقرة الداهية، ويقال‏:‏ قد أيقنت أن العذاب نازل بها‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقى‏}‏ يعني‏:‏ حقاً إذا بلغت النفس إلى الحلقوم‏.‏ يعني‏:‏ خروج الروح ‏{‏وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ‏}‏ يعني‏:‏ يقول من حضر عند الموت، هل من طبيب حاذق يداويه‏؟‏ ويقال‏:‏ من راق، يعني‏:‏ من يشفي من هذا الحال‏.‏ ويقال‏:‏ من راق، يعني‏:‏ من يقدر أن يرقي من الموت‏.‏ يعني‏:‏ لا يقدر أحد أن يرقي من الموت‏.‏ والعرب تقول‏:‏ من الرقية، رقى يرقي رقيةً، ومن الرقيّ وهو الصعود، رقي يرقى رقياً، فهو راق منهما‏.‏

‏{‏وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق‏}‏ يعني‏:‏ استيقن أنه ميت، وأنه يفارق الروح من الجسد‏.‏ ويقال‏:‏ وقيل من راق، أن الملائكة الذين حضروا لقبض روحه يقول‏:‏ بعضهم لبعض، من راق يعني من يصعد منا بروحه إلى السماء، فأيقن عند ذلك أنه الفراق ‏{‏والتفت الساق بالساق * إلى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ المساق‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني‏:‏ التفت شدتان أخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من الآخرة‏.‏ وروى وكيع، عن بشير بن المهاجر قال‏:‏ سمعت الحسن يقول‏:‏ والتفت الساق بالساق، قال‏:‏ هما ساقان إذا التفتا في الكفن، إلى ربك يومئذٍ المساق يعني‏:‏ يساق العبد إلى ربه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 40‏]‏

‏{‏فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ‏(‏31‏)‏ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏32‏)‏ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ‏(‏33‏)‏ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏34‏)‏ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏35‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ‏(‏36‏)‏ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ‏(‏37‏)‏ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏38‏)‏ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏39‏)‏ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ‏(‏40‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى‏}‏ وهو أبو جهل بن هشام، يعني‏:‏ لم يصدق بتوحيد الله تعالى، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم يصل لله تعالى‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ صلى‏}‏ يعني‏:‏ ولا أسلم‏.‏ فسمي المسلم مصلياً ‏{‏ولكن كَذَّبَ وتولى‏}‏ يعني‏:‏ كذب بالتوحيد، وتولى يعني‏:‏ أعرض عن الإيمان ‏{‏ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى‏}‏ قال القتبي‏:‏ يعني‏:‏ وأصله في اللغة يتمطط فقلبت الطاء ياء فصار يتمطى يعني‏:‏ ذهب إلى أهله يتمطى يعني‏:‏ ويتبختر في مشيته ‏{‏أولى لَكَ فأولى‏}‏ وعيد على أثر وعيد، يعني‏:‏ احذر يا أبا جهل‏.‏ ‏{‏يتمطى أولى لَكَ‏}‏ أي‏:‏ قرب لك يا أبا جهل‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جهل‏:‏ أولى لك فأولى ‏{‏ثُمَّ أولى لَكَ فأولى‏}‏ ثم نزل به القرآن‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه أولى لك يعني‏:‏ يوجب لك المكروه يا أبا جهل، والعرب تقول أولى بفلان، إذا وعد له مكروهاً‏.‏ وقال القتبي‏:‏ أولى لك تهديد ووعيد كما قال‏:‏ فأولى لهم ثم ابتدأ فقال‏:‏ ‏{‏طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الامر فَلَوْ صَدَقُواْ الله لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 21‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى‏}‏ يعني‏:‏ أن يترك مهملاً، لا يؤمر ولا ينهى ‏{‏أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىّ يمنى‏}‏ يعني‏:‏ أليس قد خلق من ماء مهين‏.‏ قرأ ابن عامر وحفص، عن عاصم، من منى يمنى بالهاء، والباقون بالتاء على معنى التأنيث، لأن النطفة مؤنثة‏.‏ ومن قرأ بالياء، انصرف إلى المعنى وهو الماء ‏{‏ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً‏}‏ يعني‏:‏ صارت بعد النطفة علقة ‏{‏فَخَلَقَ فسوى‏}‏ يعني‏:‏ جمع خلقه في بطن أمه مستوياً، معتدل القامة ‏{‏فَجَعَلَ مِنْهُ‏}‏ يعني‏:‏ خلق من المني ‏{‏الزوجين‏}‏ يعني‏:‏ لونين من الخلق ‏{‏الذكر والانثى أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر على أَن يُحْيِىَ الموتى‏}‏ اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به التقرير، يعني‏:‏ أن هذا الذي يفعل مثل هذا، هو قادر‏.‏ على أن يحيي الموتى‏.‏ وذكر عن ابن عباس، أنه كان إذا قرأ ‏{‏أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر على أَن يُحْيِىَ الموتى‏}‏ قال‏:‏ سبحانك اللهم بلى قادر، والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم‏.‏